كرة القدم: ساحة معركة في العالم العربيّ (JMD in Le Monde Diplomatique (Arabic)


عالم العربي > كانون الأوّل/يناير > 2012

خاص النشرة العربيّة

جيمس م. دورسي

كرة القدم: ساحة معركة في العالم العربيّ

العلاقة بين الانتفاضات العربيّة وكرة القدم
تذكّر مشاهد الاحتجاجات التي تعيشها انتفاضات العالم العربيّ، من مصر إلى سوريا، بتلك لمشجّعي فرق كرة القدم أثناء المباريات الحامية. كانت الملاعب تضجّ بالأهازيج، والأغاني الجماعيّة، والألعاب النارية، ولكن أيضاً بالمعارك بين فرق المشجّعين ومع الشرطة. كرة القدم لعبة تستخدمها السلطة بامتياز، لكنّها أيضاً كانت معسكر التدريب للاحتجاج ضدّها، ولكسر الخوف، وللانخراط في معارك انتقلت من الملاعب إلى الساحات العامّة، بحثاً عن الحريّة والكرامة.
لكثيرٍ من العقود الثلاثة الماضية، شكّلت لعبة كرة القدم ساحة المعركة الرئيسيّة الوحيدة التي تنافست مع الدين الإسلاميّ في خلق مساحةٍ عامّة بديلة في رقعة الأرض التي تمتدّ من المحيط إلى الخليج. وبعيداً عن أضواء وسائل الإعلام الدوليّة، قدمت كرة القدم مساحة للإفراج عن الغضب المكبوت والإحباط والنضالات السياسيّة ومن أجل المساواة بين الجنسين وللحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة والعرقية والوطنيّة. وفي الوقت الذي اندلعت فيه الانتفاضة العربيّة في كانون الأوّل/ديسمبر 2010، ظهرت كرة القدم كمؤّسسة رئيسيّة غير دينيّة وغير حكوميّة قادرة على تنظيم مواجهة ناجحة بين الأنظمة القمعيّة الأمنية والإسلاميين المتشدّدين.
وعلى نحوٍ متزايدٍ في العقدين الماضيين، أضحت كرة القدم لعبةً عالية المخاطر، وحلبة لمباراة قط وفأر سياسيّة بين الجماهير والحكام المستبدّين من أجل السيطرة على الملعب، وكي توازن استخدام الجهاديين لكرة القدم كأداة للتجنيد والتواصل. هكذا راهن جميع المشاركين في اللعبة على حقيقة أنّ كرة القدم فقط يمكنها التقاط المشاعر العميقة الجذور، والعاطفة والالتزام التي حرّكها الإسلام السياسيّ بين غالبية السكان في العالم العربيّ.
نتيجة ذلك، برزت كرة القدم كأوّل ضحيّة عندما عمّت الاحتجاجات الشوارع. إذ أنّ تعليق مباريات الدوري كان واحدة من الخطوات الأولى التي اتّخذها القادة المحاصرون عندما اندلعت الاحتجاجات الواسعة المناهضة للسلطة. حيث أنّهم يعرفون أنّ ملعب كرة القدم هو نقطة محتملة لتجمّع المعارضين.
تعليق سوريا مباريات كرة القدم للمحترفين إلى أجلٍ غير مسمّى أوائل عام 2011 قبل حملة القمع العنيفة دفع بالاحتجاجات المناهضة للحكومة مرّةً أخرى نحو المسجد. ومع تعذّر وصول الجماهير إلى ملاعب كرة القدم وتحوّلها إلى مراكز للاحتجاز ونقطة لانطلاق القمع لقوّات الأمن، انطلقت الاحتجاجات في كثيرٍ من الأحيان من المسجد، المكان الوحيد المتبقّي حيث يستطيع الناس التجمّع بأعدادٍ كبيرة.
كذلك جاء تعليق ألعاب كرة القدم للمحترفين عندما اندلعت الاحتجاجات بدايةً في تونس ومصر والجزائر وخلال فترة وجيزة في إيران في شباط/فبراير ليظهر تحوّل احتجاجات الناشطين المسّيسين، والمشجّعين المتطرّفين لكرة القدم في كثير من الأحيان، من الملعب إلى الساحة العامّة. وهذا ما لعب دوراً فريداُ في كثيرٍ من الأحيان في مساعدة المتظاهرين الذين يسعون إلى التخلّص من نير الحكم الأمنيّ، وسوء الإدارة الاقتصادية والفساد ولكسر حاجز الخوف الذي أقامه المستبدّون الجدد في نظامهم الأبويّ الذي أخضعهم للسكوت والهمود حتّى ذلك الحين.
الأبويّة السلطويّة الجديدة هي ما يجعل من الديكتاتوريات العربية مختلفة عن غيرها من الدكتاتوريات في أجزاءٍ أخرى من العالم. إذ ليست الأنظمة الديكتاتورية مفروضة ببساطة من فوق على مجتمعات تلهث من أجل الحرية. وفي حين تفتقر الأنظمة الاستبداديّة العربيّة إلى الدعم الشعبي والمصداقية، إلاّ أنّ ردّ فعلها القمعيّ يخلق حواجز خوف معمّمة ومتكرّرة على كلّ طبقة تقريباً من المجتمع. هكذا تساهم مقاومة المجتمع الداخليّة للتغيير والتخوّف منه في استمرار هذه الأنظمة الاستبدادية.
في كتابٍ [1] مثير للجدل، نشر في العام 1992، والذي لا يزال محظوراً في العديد من الدول العربية، قال المؤرخ الأمريكي-الفلسطيني هشام شرابي أنّ المجتمعات العربي مبنيّة حول هيمنة "من الأب (البطريرك)، الذي يشكّل النقطة المركزيّة التي من حولها يتمّ تنظيم الوطن والأسرة الطبيعية. وبالتالي توجد فقط علاقة عاموديّة بين الحاكم والمحكوم، وبين الأب والطفل: في كلٍّ من هذه العلاقات إرادة الأب هي الإرادة المطلقة، حيث يتوسّط هو في المجتمع والأسرة على حدٍّ سواء، من خلال توافقٍ قسريّ مبنيّ على أساس الطقوس والإكراه". وبعبارةٍ أخرى، لزّمت الأنظمة العربية القمع بحيث يشارك المجتمع، والمضطهدون، في قمع ذاتهم وحرمان نفسهم من الحقوق. والسلطة هي في الواقع أب جميع الآباء في أعلى الهرم. وعلى حدّ قول الصحافي المصري خالد دياب، إنّ مشكلة مصر ليست مجرّد رئيسٍ كهلٍ وعاجزٍ عن عرض نفسه بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً في السلطة، ولكنّ الحقيقة أنّ "مصر لديها مليون (رئيس حسني) مبارك" [2].
نتيجةً لذلك، القيم الأبوية التي تهيمن على كرة القدم، بالإضافة إلى شعبيّتها، قد جعلت منها لعبةً مثاليّة للبطاركة الجدد. قيمهم هي قيم كرة القدم: تأكيد تفوّق الرجل في معظم جوانب الحياة، والسيطرة أو استغلال شهوة الإناث، والاعتقاد في ربٍّ المذكّر.
وعندما اخترقوا حواجز الخوف للأبويّة الجديدة، وسّع النشطاء من مشجّعي كرة القدم تقليد الارتباط الوثيق بين كرة القدم والسياسة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ وهذا واضحٌ حتّى اليوم في عمان وطهران والرياض والقاهرة، موطن أعنف مواجهات في العالم على أراضي الملاعب. ولا تقتصر المعركة على أرض الملعب فقط على المستقبل السياسيّ والاقتصادي للمنطقة. بل هي معركة تحديات التحيّز ضد المرأة في تأكيد حقوقها ضد احتمالات القيود القانونية، والضغط الاجتماعي واللباس الديني. كما أنّها معركة الجهود التي يبذلها المتطلّعون إلى دولة مستقلّة بهم - من الفلسطينيين والأكراد - أو لتأكيد هويّة أقليّات مثل البربر في الجزائر والآذريين الإيرانيين والفلسطينيين في إسرائيل.

تسجيل أهداف سياسيّة

في كثيرٍ من الأحيان، تحمل ملاعب كرة القدم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ندوب المعارك التي تخاض على الأرض، وتذكّر بالوحشية التي يستخدمها الحكّام المستبدين هناك لقمع التعبير والاحتجاج. وإذ سعى الحكام المستبدون للسيطرة على الملعب كجزءٍ من ارتباطهم بكرة القدم وفي محاولة للاستفادة من العاطفة العميقة التي تثيرها هذه اللعبة، فإنّ المشجّعين قد عقدوا العزم على هزيمة محاولاتهم من خلال المحافظة عليها كساحة معركة.
هكذا بالإضافة إلى تلميع صورتهم الملطخّة، سمحت لعبة كرة القدم للحكّام المستبدّين بصرف الانتباه عن السخط المتزايد والسياسات التي لا تحظى بشعبية. بالتالي إنّ تماهي كلّ من رؤساء مصر وإيران واليمن - حسني مبارك ومحمود أحمدي نجاد وعبد الله علي صالح - فضلاً عن نجل الزعيم الليبي السابق، الساعدي بن القذافي، مع فرق بلادهم الوطنية قد حوّل نجاحات وإخفاقات فرقهم الرياضيّة إلى مقاييس تظهر مستوى أداء أنظمتهم. ويتمّ نقل اللاعبين والمدرّبين إلى خط النار كلّما فشلت فرقهم في الارتقاء إلى مستوى التوقّعات السياسية لرؤسائهم، أو أعضاء اسر القادة المستبدين وأعوانهم.
فنحو مئة وخمسون من الرياضيين والمسؤولين التنفيذيّين في الرياضة الذين شاركوا في الاحتجاجات المناهضة للحكومة في البحرين للمطالبة بقدرٍ أكبر من الحريّة السياسية، ووضع حدٍّ للتمييز ضد المسلمين الشيعة، وللمطالبة بالمزيد من الفرص الاقتصادية في أوائل عام 2011 قد تمّ إمّا اعتقالهم أو صرفوا من وظائفهم. وكانوا من بين آلاف المعتقلين في حملة الحكومة الأخيرة التي خلّفت نحو 30 قتيلاً. بينهم كان هناك ثلاثة أعضاء من الفريق الوطني لكرة القدم، بما في ذلك علاء ومحمد حبيل.
وإذا كان لأيّة مجموعة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن تؤكّد مفهوم شرابي للنظام الأبويّ الجديد، فهم لاعبو كرة القدم المحترفين والمسؤولين الرياضيين، باستثناء أولئك الموجودين في البحرين الذين يدفعهم النضال ضدّ التمييز المقام بحقّهم بوصفهم أعضاء في الأغلبية الشيعيّة المسلمة، وحارس المرمى السوريّ الذي يتزّعم الاحتجاجات في مدينة حمص المحاصرة [3]. أمّا في مصر وتونس فقد بقي لاعبو كرة القدم على الحياد خلال الأحداث الجسام في بلدانهم، في حين أنّ بعض مسؤولي كرة القدم البارزين، ولا سيّما في مصر والبحرين، أعلنوا تأييدهم للزعيم الاستبدادي المحاصر. كما استغرق الأمر أربعة أشهر من الاحتجاجات الجماهيريّة، التي تحوّلت فيما بعد إلى حربٍ أهلية، كي تقوم مجموعة من لاعبي ليبيا بالانضمام إلى قوّات الثوار ضد القذافي. في الوقت نفسه، نعت قائد سابق للفريق الرياضيّ الثوار المتمرّدين ضد القذافي بالجرذان والكلاب.
والاتجاه للسيطرة على كرة القدم يفسّر أيضاً الدعم الحكومي والمشاركة الواسعة في اللعبة في الشرق الأوسط ودول شمال إفريقيا. ففي عالم كرة القدم المجنون في مصر، ما يقارب نصف الفرق الـ16 في الدوري المصري الممتاز يملكها الجيش والشرطة والوزارات الحكومية أو السلطات المحلية. كما شيّدت شركات المقاولات العسكرية 22 ملعباً من ملاعب كرة القدم في مصر. وبالمثل، سيطر الحرس الثوري الإيراني في السنوات الأخيرة على أبرز فرق كرة القدم. وفي الخليج، هناك جمعيات ومجالس لأندية لكرة القدم يتمّ ملؤها من العائلة المالكة. ويملك الجيش السوري والشرطة ويشغّلان اثنتين من أهم فرق البلاد. بحيث كان فريق الجيش لزمنٍ طويل مرادفاً تقريباً للمنتخب الوطني.

الملعب هو مدرسة الاحتجاج

شكّلت ملاعب كرة القدم في مختلف أنحاء المنطقة ما يعادل مدرسة التدريب العسكريّة للاحتجاج، حيث يحوّلها المشجّعون من الجزائر إلى إيران، هؤلاء الذين يقاومون محاولات المستبدّين للسيطرة السياسية على كرة القدم، إلى أماكن للتعبير عن الغضب. هكذا كانت المعارك الأسبوعية في الملاعب المصرية بين قوّات الأمن ومجموعات المشجّعين المنافسة تدريباً لانصار كرة القدم في القاهرة للمواجهات التي وقعت في أوائل عام 2011 في ميدان التحرير، والتي أجبرت الرئيس المصري حسني مبارك على التخلّي من السلطة. وبالمثل، فإنّ الاحتجاجات المناهضة للحكومة في ملاعب كرة القدم قد سبقت المظاهرات الحاشدة التي اندلعت في تونس في كانون الأول/ديسمبر 2010.
هكذا حوّلت هذه الاشتباكات الأسبوعية الأنصار المتطرّفين العنيدين إلى قوّة يحسب لها حساب. ممّا سمح لهم في لحظة حاسمة في التاريخ المصري، أن يكونوا في طليعة انتفاضة الشعب وأن يشعروا بالاستقواء نتيجة انتصاراتهم الكبرى الأولى، بعد أن امتدّت المعركة من داخل الملعب إلى شوارع تونس وميدان التحرير في القاهرة، حيث وضعوا جانباً العداء العميق الجذور بين مؤيّدي نادي الأهلي ومنافسه اللدود الزمالك. واستبدل عمق العداء بين الناديين بكراهية شديدة لنظام مبارك. في حين كان من النادر أن تقنعهم ظروفٌ أخرى على وضع خلافاتهم جانباً، على الأقل مؤقتاً، والوقوف كتفاً إلى كتف في مواجهة الموالين لمبارك.
وقد كان للجمع بين مهارات المجموعتين، مقروناً بها تجربتهما في خوض المعارك في الشوارع، أثراً واضحاً في تنظيم الخدمات الاجتماعية وتقسيم العمل الذي تمّ اعتماده في ميدان التحرير، حيث خيّم عشرات الآلاف لمدّة 18 يوماً حتّى لم يعد لمبارك أيّ خيارٍ آخر سوى التنحّي في 11 شباط/فبراير. وعلى الطريقة التي تنظّم فيها البلديات الخدمات العامّة، قام المتظاهرون بمهامٍّ مماثلة مثل جمع القمامة، وارتدوا شريطاً لاصقاً يشير إلى دورهم، كصحافيين أو مسعفين، على سبيل المثال.
المجموعات المتطرّفة - وهي غالباً مؤلّفة من فوضويّين يعارضون النظم الهرمية للحكم - انضمّت إلى الذين يقومون بدوريات في محيط مربّع الميدان ويراقبون الداخلين إليه؛ وتمركز شبابها في الخطوط الأمامية خلال الاشتباكات مع قوّات الأمن والمؤيدين للحكومة. وقد ساعدت خبرتها على السيطرة على الميدان حين استعمل الموالون للرئيس القوّة المفرطة لإخراجهم من الساحة. حيث كان بينها رماة الحجارة، والمتخصّصون في قلب وإحراق السيارات لأغراض دفاعية، وطواقم التموين الذين يغذوّن بالحجارة كلّ أنحاء الساحة.
هكذا مكّنت خبرة أنصار كرة القدم في معارك الشوارع من مساعدة المتظاهرين في كسر حواجز الخوف التي كانت تمنعهم في السابق من مواجهة. "كنّا في الخطّ الأمامي. وعندما هاجمت الشرطة شجعنا الناس. قلنا لهم لا تهربوا أو تخافوا. وبدأنا بإطلاق القنابل الحارقة. تحلّى الناس بالشجاعة وانضمّوا إلينا، وهم يعرفون أنّنا اختبرنا الظلم، وفي الواقع نحبّ أن نحارب الشيطان"، هكذا روى الأمور محمد حسن، ذو العشرين عاماً، وطالب علوم الحاسوب وهو يتحدّث بنعومة، في حين يطمح لأن يكون مصوّراً. وهو في الحقيقة زعيم مجموعة الأنصار المتطرّفين لفريق الزمالك.
قاد المسيرة من حيّ شبرا بالقاهرة، محمد شاكر، وهو رجلٌ صغير القامة، حتّى وصل الحشد إلى 10000 شخص. عبروا سبع حواجز أمنية، ليصلوا إلى ميدان التحرير يوم 25 كانون الثاني/يناير، وهو اليوم الأول للاحتجاجات. كانوا يحضّر لهذا اليوم، هو ورفاقه، منذ أربع سنوات. ويشحذون مهاراتهم القتالية في معاركٍ مع الشرطة التابعة لمبارك، وضدّ منافسيهم من الفرق الأخرى. سعت مجموعة تضمّ محمّد في إحدى اللحظات لاختراق حواجز الشرطة للوصول إلى مكانٍ قريبٍ من مبنى البرلمان. وها هو يروي: "عندما أرى قوّات الأمن، أصبح مجنوناً .سوف أقتلهم أو أموت. انتمائي إلى مجموعة المشجّعين قد قتل فيَّ الخوف. وتعلّمت معنى الأخوة، وحصلت على شجاعة الملعب". ثمّ أشار إلى وجود ندبة على الجانب الأيسر من جبهته، من حجرٍ ألقي عليه من قبل الشرطة التي أجهضت في وقتٍ مبكِّر محاولة المشجّعين اختراق البرلمان. ولكن عندما تدفّق الدم إلى أسفل وجهه، سمع الجدران الداخلية للخوف تنهار، في وقت ارتفعت الصيحات من الحشود وراءه: "إنّهم إخواننا. يمكننا أن نفعل هذا".
هكذا انتقل الصراع الدائر في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من الملاعب إلى الساحات العامّة، وفي بعض الحالات إلى الغرف التي امتلأت بدخان المساومات السياسية. وقد خوّلت مساهمة مشجّعي كرة القدم في إسقاط قادة كلّ من مصر وتونس هؤلاء في أن يلعبوا دوراً في ضمان أنّ الحكومات الانتقالية ستلبّي مطالب المحتجّين، وفي التأثير على اللعبة السياسية برمّتها. هم بالفعل من أعطى إشارة اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة في أيلول/سبتمبر 2011، وأجبروا حكومتهم للاستماع إلى الرأي العام عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل. كانت الرسالة موجّهة إلى القادة العسكريين الحاكمين، بقدر ما كانت موجهة إلى إسرائيل ذاتها، وعكست القلق المتزايد من قبل قطاعات عديدة من المصريين من أن يقوم الجيش بالحدّ من الحريات التي بذل الكثير لتحقيقها، أو بتأمين دور متميز له في السلطة التي ستنبثق عن الانتخابات البرلمانية والرئاسية. ثمّ أخذ هذا القلق طريقه إلى الشوارع مجدّداً حول ميدان التحرير في تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الاول/ديسمبر، حين قام المحتجون، وفي مقدمّتهم المشجّعون المتطرّفون، بخوض معارك شرسة مع القوى الأمنية والجيش خلّفت 55 قتيلاً على الأقل.
بالنسبة إلى المحتجّين والمشجّعين المتطرّفين، هزيمة الشرطة هي بمثابة هزيمة نظام مبارك؛ ولكنّها في الواقع كانت هزيمة ما وصفته سلوى إسماعيل [4] بأنّه "الخوف وثقافة الخوف التي انشأتها الرقابة المستمرّة، والتجسّس، والإذلال وسوء المعاملة". "وما كان يقوم به المحتجّون والمشجّعون المتطرّفون في ميدان التحرير وقبله في الملاعب هو رفض الخوف وثقافة الخوف"، كما قال المؤرّخ في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية جون كالكرفت.
أتت الأمور أيضاً تعلّماً للدروس - سواء في الصراع الذي أدّى إلى سقوط حسني مبارك، أو في الفترة الانتقالية ما بعد مبارك - من إخفاقات ثوّار آخرين، مثل الشاعر السوري البارز أدونيس الذي اشتهر في ذروة فترة القومية العربية. حيث كتب أدونيس ما يلي: "نحن نعلم أن إضفاء الطابع المؤسّساتي على عصرٍ جديد يتطلّب منذ البداية قطيعة تامّة مع الماضي. كما نعلم أيضاً أن نقطة انطلاق هذه القطيعة هو النقد، نقد كلّ ما هو موروث، ومنتشر ومعمّم" [5]. وبروحٍ غريزية من أدونيس وغيره، كان المشجّعون المتطرّفون، إلى جانب مجموعات شبابية أخرى، مصمّمون في الأشهر التي سبقت الانتخابات في مرحلة ما بعد مبارك على إحباط محاولات الجيش لتسلّم الحكم على مبدأ: الإمبراطور مات، فليعش الامبراطور".
وفيما كان خطّ المواجهة في "معركة (وزارة) الداخلية" أو ما يطلق عليها "معركة محمّد محمود" يقترب في بعض الأحيان من الوزارة أو يبتعد عنها، كانت الدراجات النارية الصينيّة الصنع تقوم بنقل الجرحى إلى أماكنٍ آمنة. كما كانت الألعاب النارية الملوّنة، الشماريخ، التي يستخدمها المشجّعون المتطرّفون خلال مباريات كرة القدم تضيء السماء في الليل، مستبدلةً أضواء الشوارع التي تمّ إطفاءها. كان كلّ ذلك بالنسبة إليهم جزءٌ من معركة "الكرامة" لإجبار العسكر على أخذ البلاد نحو الديمقراطية. وهكذا ارتبطت كرامتهم بقدرتهم على الوقوف في وجه" الداخلية"، وبإحساسهم أنّه لم يعد بالإمكان الإساءة إليهم من قبل قوّات الأمن دون عقاب، وبأنّه لم يعد هناك حاجة لدفع مبلغٍ ماليّ لكل رجل شرطة للبقاء بعيداً عن المشاكل.
وللسخرية، كان هناك شعورٌ مشتركٌ بين قوّات الأمن وهؤلاء المتطرفين: أنّه للمرّة الأولى منذ خمس سنوات من المعارك المتواصلة، قوّات وزارة الداخلية هي التي تقاتل من أجل البقاء بدلاً من مشجّعي كرة القدم. إذ ظلّت صورة الشرطة مشوّهة، كأداةٍ لنظام وحشيّ، دون تغيير بعد تسعة أشهر من سقوط مبارك، كما عزّز هذه الصورة رفض الجيش مساءلة ضبّاط الشرطة عن وحشيّتهم بالرغم من الضغوط التي مارسها الرأي العام، فضلاً عن مسؤولي الأمن الإصلاحيين.
هكذا لا تزال كرة القدم هي ساحة معركة ومرآة للديناميّة الاجتماعية والسياسية، ليس فقط في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي لا يزال يحكمها القادة المستبدّون، بل أيضاً في البلدان التي أطاحت برؤسائها في سياق الثورات العربية. ومشجعو كرة القدم المتشدّدون لا يزالون في طليعة النضال لإجبار الحكومات الانتقالية في مصر على تأمين الحرية والكرامة تماشياً مع مطالب المحتجين. وملعب كرة القدم هو أيضاً أكثر من أيّ وقتٍ مضى مكانٌ أساسيّ في نضال الفلسطينيين لإقامة دولة فلسطينيّة خاصّة بهم. لكثير من العقود الماضية، كانت كرة القدم في هذه البلدان أكثر بكثير من مجرّد لعبة؛ إذ أنّ قوّتها وتأثيرها سيكفلان أنّ الرهان في الملعب سيكون أكبر بكثير من اللعبة ذاتها.

* هو من كبار الزملاء في مدرسة س. راجاراتنام للدراسات الدوليّة في جامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة، وصاحب الموقع الالكتروني، The Turbulent World of Middle East Soccer.
[1] Hisham Shirabi, Neopatriarchy: A Theory of Distorted Change in Arab Society, London, 1992.
[2] Brian Whitacker, What’s Really Wrong with the Middle East, London, 2009
[3] هو عبد الباسط ساروت: راجع http://www.alarabiya.net/articles/2...
[4] Salwa Ismail, Political Life in Cairo’s New Quarters, Encountering the Everyday State, page 165, University of Minnesota Press, 2006
[5] Adonis, Manifesto of Modernity (or Modernism), Mawaqif No. 26, Beirut, 1980

Comments

Popular posts from this blog

Israeli & Palestinian war crimes? Yes. Genocide? Maybe. A talk with Omer Bartov

Intellectual honesty in Israel & Palestine produces radically different outcomes

Pakistan caught in the middle as China’s OBOR becomes Saudi-Iranian-Indian battleground